فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أي أن إبليس لا يستطيع أن يقترب من عبد مؤمن مخلص في إيمانه. ولذلك لابد أن نلتفت إلى قول الشيطان الذي جاء على لسانه في الآية الكريمة: {إني أَخَافُ الله والله شَدِيدُ العقاب} [الأنفال: 48].
إذن فما دام إبليس يخاف الله، وما دام يعلم أن الله شديد العقاب فما الذي أذهب عنه هذا الخوف حين أمره الله بالسجود لآدم فعصى؟. خصوصًا وهو يعلم أن الله شديد العقاب، ولو كان قد عرف أن الله لا يعاقب أو يعاقب عقابًا خفيفًا لقلنا أغرته بساطة العقاب بالمعصية. ولكن علمه بشدة العقاب كان يجب أن يدفعه إلى الطاعة من باب أولى.
ونقول: إنه في ساعة الكبر نسي إبليس كل شيء!
فأنت في حين يأخذك الكبر تتعالى ولو في مواقع الشدة، حتى وإن علمت أنه قد يصيبك عقاب شديد، ولكن يختفي كل هذا من نفسك إذا دخل فيها الكبر.
ولذلك قد تجد إنسانًا يُعذب بضرب شديد ولكن الكبر في نفسه يجعله لا يصيح ولا يصرخ. ونجد إنسانًا قد يتخذ في لحظة كبر قرارًا له عواقب وخيمة ولكنه يتحمله. وإبليس ساعة رفضه تنفيذ أمر السجود كان يمتلئ بالكبر والغرور، فتكبر على أمر الله وملكه الغرور فقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61].
إذن ففي لحظة الكبر نسي إبليس كل شيء، واندفع في معصيته يملؤه الزهو وأصر على المعصية رغم علمه أن الله شديد العقاب.
وفي قوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} [الأنفال: 50].
نجد أنه قد حذف جواب لو والمعنى لو كشف الحجاب لترى الملائكة وهم يتوفون الذين كفروا لرأيت أمرا عظيما فظيعا، وهل يحدث هذا ساعة القتال عندما يُقتل الكفار في المعركة وتستقبلهم الملائكة بالضرب، أم يحدث هذا الأمر لحظة الوفاة الطبيعية؟.
كلاهما صحيح والعذاب هذا أخذ صفة الإقبال ومحاولة الهرب، ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ...} [الأنفال: 50].
فالمقبل منهم يضربونه على وجهه، فإذا أدار، وجهه ليتقي الضرب، يضربونه على ظهره، وكان الكفار يعذبون المؤمنين بهذه الطريقة؛ فالمقبل عليهم من المؤمنين يضربونه على وجهه، فإذا حاول الفرار ضربوه على ظهره وعلى رأسه.
ويذيق الله الكافرين ما كانوا يفعلونه مع المؤمنين. ولكن الفارق أن الضارب من الكفار كان يضرب بقوته البشرية المحدودة. أما الضارب من الملائكة فيضرب بقوة الملائكة. ويقال: إن الملائكة معهم مقامع من حديد. أي قطع حديد ضخمة يضربون بها وجوه الكفار وأدبارهم. ومن شدة الضربة واحتكاك الحديد بالجسم تخرج منه شرارة من نار لتحرق أجساد الكفار.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} [الأنفال: 50].
إذن فهم يضربون الكفار ساعة الاحتضار ضربًا مؤلمًا جدا هذا الضرب رغم قسوته، والشرر الذي يخرج منه لا ينجيهم في الآخرة من عذاب الحريق.
ولذلك أقبل صحابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله.. لقد رأيت في ظهر أبي جهل مثل شراك النعل. أي علامة من الضرب الشديد ظاهرة على جسده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك ضرب الملائكة، وجاء صحابي آخر وقال: يا رسول الله.. لقد هممت بأن أقتل فلانا فتوجهت إليه بسيفي، وقبل أن يصل سيفي إلى رقبته رأيت رأسه قد طار من فوق جسده. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبقك إليه الملك وذلك مصداقًا لقول الحق سبحانه وتعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12].
وهنا في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق تبارك وتعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: 50].
أي أن الضرب فيه إهانة أكثر من العذاب، ولو أن العذاب قد يكون أكثر إيلامًا. فقد يقوم مجرم بارتكاب جريمة ما فإذا أُخِذَ وعُذب ربما تحمل العذاب بجلد، ولكنَّه إذا ضُرب أمام الناس كان ذلك أشدَ إهانة له، فإذا كان الضرب من الذي وقعت عليه الجريمة كانت الإهانة أكبر.
ولكن هذا الضرب والعذاب لا ينجيهم من عذاب النار، بل يدخلون إلى أشد العذاب يوم القيامة، وهذه نتيجة منطقية لما يفعله الكفار من عدم الإيمان بالله ومن قيامهم بإيذاء المؤمنين به والإفساد في الأرض. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة}
قرأ ابن عامر والأعرج {تَتَوفَّى} بتاء التأنيث، لتأنيث الجماعة، والباقون بياء الغيبة وفيها تخريجان، أظهرهما- لموافقة قراءة من تقدَّم-: أنَّ الفاعل هم الملائكة، وإنما ذُكِّرَ للفصل؛ ولأنَّ التأنيث مجازي.
والثاني: أنَّ الفاعل ضمير الله تعالى: لتقدم ذكره و{الملائكةُ} مبتدأ، و{يَضْرِبُونَ} خبره، وفي هذه الجملةِ حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أنَّها حالٌ من المفعول.
والثاني: أنَّها استئنافيةٌ، جوابًا لسؤالٍ مقدر، وعلى هذا فيوقف على {الَّذين كَفَرُوا} بخلاف الوجهين قبله.
وضعَّف ابنُ عطية وجه الحالِ بعدم الواو، وليس بضعيفٍ لكثرة مجيء الجملة الحالية مشتملة على ضمير ذي الحال خاليةً من واو نظمًا ونثرًا، وعلى كون الملائكةُ فاعلًا، يكون {يَضْربُونَ} جملةً حاليةً، سواءً قرئ بالتأنيث أم بالتذكير، وجوابُ لَوْ محذوفٌ للدلالة عليه، أي: رأيت أمرًا عظيمًا.
قوله: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق}
هذا منصوب بإضمار قول الملائكة، أي: يضربونهم ويقولون لهم: ذوقوا.
وقيل: الواو في {يَضْربُونَ} للمؤمنين أي: يَضْربونهم حال القتال، وحال توفِّي أرواحهم الملائكة. اهـ. باختصار.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)}
يُسَلِّيهم عندما يُقاسُون من اختبارات التقدير بما يُذَكِّرهم زوالَ المحنة، ووَشْكَ رَوْح اليسر، وسرعةَ حصول النصر، وحلولَ النِّقَم بمرتكبي الظلم. والمؤمنُ كثيرُ الظَّفَرِ؛ فإذا شاهد بأرباب الجرائم حلولَ الانتقام رَقَّ قلبُه لهم، فلا ينخرط في سِلْكِ الشماتة؛ إذ يخلو قلبه من شهوة الانتقام، بل يجب أن يكون كل أحد بحُسْنِ الصفة، وكما قيل:
قومٌ إذا ظَفِروا بنا ** جادوا بعتق رقابنا

. اهـ.

.تفسير الآية رقم (51):

قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما عذبوهم قولًا وفعلًا، عللوا لهم ذلك بقولهم زيادة في تأسيفهم: {ذلك} أي هذا الفعل العظيم الذي يفعله بكم من العذاب الأليم {بما قدمت أيديكم} أي من الجراءة على الله: {وأن} أي وبسبب أن له أن يفعل ذلك وإن لم تقدموا شيئًا فإن {الله} أي الذي له صفات الكمال {ليس بظلام} أي بذي ظلم {للعبيد} فإن ملكه لهم تام.
والمالك التام المُلك على ما يملكه المِلك الذي لا شيء يخرج عن دائرة ملكه، وهو الذي جبلكم هذه الجبلة الشريرة التي تأثرت عنها هذه الأفعال القبيحة، وهو لا يُسأل عما يفعل، من الذي يسأله! ويجوز أن يكون المعنى: وليس بذي ظلم لأنه لا يترك الظالم يبغي على المظلوم من غير جزاء لكم على ظلمكم لأهل طاعته، وسيأتي في فصلت حكمة التعبير بصيغة تحتمل المبالغة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} قيل هذا إخبار عن قول الملائكة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال الواحدي: يجوز أن يقال ذلك مبتدأ، وخبره قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} ويجوز أن يكون محل ذلك نصبًا، والتقدير: فعلنا ذلك بما قدمت أيديكم.
المسألة الثانية:
المراد من قوله: {ذلك} هذا أي هذا العذاب الذي هو عذاب الحريق، حصل بسبب ما قدمت أيديكم، وذكرنا في قوله: {الم ذلك الكتاب} أن معناه هذا الكتاب وهذا المعنى جائز.
المسألة الثالثة:
ظاهر قوله: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ} يقتضي أن فاعل هذا الفعل هو اليد، وذلك ممتنع من وجوه: أحدها: أن هذا العذاب إنما وصل إليهم بسبب كفرهم، ومحل الكفر هو القلب لا اليد.
وثانيها: أن اليد ليست محلًا للمعرفة والعلم، فلا يتوجه التكليف عليها، فلا يمكن إيصا العذاب إليها، فوجب حمل اليد هاهنا على القدرة، وسبب هذا المجازان اليد آلة العمل والقدرة هي المؤثرة في العمل، فحسن جعل اليد كناية عن القدرة.
واعلم أن التحقيق أن الإنسان جوهر واحد وهو الفعل وهو الدراك وهو المؤمن وهو الكافر وهو المطيع والعاصي، وهذه الأعضاء آلات له وأدوات له في الفعل فأضيف الفعل في الظاهر إلى الآلة، وهو في الحقيقة مضاف إلى جوهر ذات الإنسان.
المسألة الرابعة:
قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} يقتضي أن ذلك العقاب كالأمر المتولد من الفعل الذي صدر عنه، وقد عرفت أن العقاب إنما يتولد من العقائد الباطلة التي يكتبها الإنسان، ومن الملكات الراسخة التي يكتسبها الإنسان، فكان هذا الكلام مطابقًا للمعقول.
ثم قال تعالى: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في محل أن وجهان: أحدهما: النصب بنزع الخافض يعني بأن الله: والثاني: أنك إن جعلت قوله: {ذلك} في موضع رفع جعلت أن في موضع رفع أيضًا، بمعنى وذلك أن الله قال الكسائي ولو كسرت ألف أن على الابتداء كان صوابًا، وعلى هذا التقدير: يكون هذا كلامًا مبتدأ منقطعًا عما قبله.
المسألة الثانية:
قالت المعتزلة: لو كان تعالى يخلق الكفر في الكافر، ثم يعذبه عليه لكان ظالمًا، وأيضًا قوله تعالى: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} يدل على أنه تعالى إنما لم يكن ظالمًا بهذا العذاب، لأنه قدم ما استوجب عليه هذا العذاب، وذلك يدل على أنه لو لم يصدر منه ذلك التقديم لكان الله تعالى ظالمًا في هذا العذاب، فلو كان الموجد للكفر والمعصية هو الله لا العبد لوجب كون الله ظالمًا، وأيضًا تدل هذه الآية على كونه قادرًا على الظلم، إذ لو لم يصح منه لما كان في التمدح بنفيه فائدة.
واعلم أن هذه المسألة قد سبق ذكرها على الاستقصاء في سورة آل عمران، فلا فائدة في الإعادة. والله أعلم. اهـ.

.قال الثعلبي:

{ذلك بِمَا قَدَّمَتْ} كسبت وعملت {أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أخذهم من غير جزم، وفي محل أنّ وجهان من الاعراب: أحدهما النصب عطفًا على قوله (بما قدمت) تقديره: وأن الله، والآخر: الرفع عطفًا على قوله (ذلك) معناه: وذلك أن الله. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {ذلك بما قدمت أيديكم}
يحتمل أن يكون من قول الملائكة في وقت توفيتهم لهم على الصورة المذكورة، ويحتمل أن يكون كلامًا مستأنفًا تقريعًا من الله عز وجل للكافرين حيهم وميتهم، {وأن} يصح أن تكون في موضع رفع على تقدير والحكم أن، ويصح أن تكون في موضع خفض عطفًا على ما في قوله: {بما قدمت}، وقال مكي والزهراوي: ويصح أن تكون في موضع نصب بإسقاط الباء تقديره وبأن، فلما حذفت الباء حصلت في موضع نصب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا غير متجه ولا بيّن إلا أن تنصب بإضمار فعل. اهـ.